الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وبعد، فلو كان تأويلها ما ذهبوا إليه، وكانت السهام التي نسخت ما يرثه الحليف قبل نزول الفرائض، لوجب في بدء، وما قالوا إذا كان لا وارث للميت من أصحاب السهام أن يكون الحليفان في التوارث على أول فرضهما، وعلى المقدم من حكمها، لأن الذي منعهما إذا ثبت هذه التأويل من له سهم دون من لا سهم له، فإذا ارتفع المانع، رجع الحكم إلى بدئه.ولا اختلاف بين الفريقين أن الحليف لا يرث الحليف اليوم، وإن كان لا وارث سواه، وهذا يدل على فساد تأويلهم، وعلى أن المراد في الآية التي أوجبت الحق للأقارب غير الذي ذهبوا إليه، فإن الله سبحانه إنما أراد بمعناها اختصاص القريب بالإرث دون البعيد. وقد يلزم من ذهب إلى الرواية عن زيد، وترك الرواية عن عمر وعلي وبعد الله عليهم السلام جانبًا، وأسقط التعاقل بين الأجنبي والقريب، وأن يجعل ذا الرحم أولى، لأنه لا يفضل الأجنبي بالقرابة.وترتيب المواريث في الأصل، يجري على من تقدمه من فضل غيره في المناسبة، كالأخ للأب والأم، والأخ للأب، وابن العم للأب والأم، وابن العم للأب واختصاصهما قرابة أولاهما بالميراث عند جمع الجميع، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، وولد الولد، من سفل منهم ومن ارتفع، يعمهم هذا الاسم، إلا أن الأقرب منهم، في معنى الآية، أحق من الأبعد، فإذا كان ذلك كذلك، كان القريب أولى من الأجنبي بالتركة للرحم التي تقرب بها دونه.وبعد، فإن العلماء نفر يسير لا يعرفون الصواب في هذه المسألة، إلا فيما روي عن الخليفتين عمر وعلي صلوات الله عليهما، وما روي عن ابن مسعود، ثم لم يقتصروا في المبالغة والدليل في توريث ذي الرحم، إلا على ما روي عن عبد الله بن العباس جد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وترجمان القرآن، وبحر العلم، ومن كان إذا تكلم سكت الناس، ومن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم! فقهه في الدين وعلمه التأويل، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة، ومن كان أعلم بتأويل القرآن فاتباعه فيه أوجب.وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك من قول عمر وعلي وعبد الله والجماعة، وما زالت الخلفاء من أجداد أمير المؤمنين، أعزه الله، يستقضون الحكام، فيقضون برد المواريث على الأقارب، ولا ينكرون ذلك على من قضى به من قضاتهم، ولا ترودنه متجاوزًا للحق فيه، وما عرفت الجماعة بغير هذا الاسم إلا منذ نحو عشرين سنة، وأمير المؤمنين أولى من اتبع آثار السلف، واقتدى بخلفاء الله، ومال إلى أفضل المذهبين، وإلى الله الرغبة في عصمة الأمير، وتسديده، والحمد لله رب العالمين. انتهى.ونقل أبو الحسن الصابي قبل نسخة أبي الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة في المواريث، وفيها نقل ما كتبه عبد الحميد في كتاب مواريث أهل الملة، وأنه حكى فيه أن عُمَر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم ومن اتبعهم من الأئمة الهادين رحمة الله عليهم، رأوا أن يرد على أصحاب السهام من القرابة ما يفضل عن السهام المفترضة في كتاب الله تبارك وتعالى من المواريث، وإذا لم يكن للمتوفى عصبة يحوز باقي ميراثه، وجعلوا، رضي الله عنهم، تركة من يتوفى ولا عصبة له لذوي رحمه، إن لم يكن له وارث سواهم، ممتثلين في ذلك أمر الله سبحانه إذ يقول: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترويثه من لا فرض له في كتاب الله تعالى من الخال وابن الأخت والجدة. انتهى.الثالث: استدل بالآية الإمامية على تقديم الإمام علي كرم الله وجهه على غيره في الإمامة، لاندراجها في عموم الأولوية.والجواب- على فرض صحة هذه الدلالة- أن العباس رضي الله عنه كان أولى بالإمامة، لأنه كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي رضي الله عنه. اهـ.
حيث عَبرت عن نَوش بني أبيه بتمزيق أرحام.وعُلم من قوله: {أولى} هو صيغة تفضيل أنّ الولاية بين ذوي الأرحام لا تعتبر إلا بالنسبة لمحلّ الولاية الشرعية فأولوا الأرحام أوْلى بالولاية ممّن ثبتت لهم ولاية تامّة أو ناقصة كالذين آمنوا ولم يهاجروا في ولاية النصر في الدين إذا لم يقم دونها مانع من كفر أو ترك هجرة، فالمؤمنون بعضهم لبعض أولياء ولاية الإيمان، وأولو الأرحام منهم بعضهم لبعض أولياء ولايةَ النسب، ولولاية الإسلام حقوق مبيّنة بالكتاب والسنّة، ولولاية الأرحام حقوق مبيّنة أيضًا، بحيث لا تُزاحم إحدى الولايتين الأخرى، والاعتناءُ بهذا البيان مؤذن بما لوشائج الأرحام من الاعتبار في نظر الشريعة، فلذلك عَلقت أولوية الأرحام بأنّها كائنة في كتاب الله أي في حكمه.وكتابُ الله قضاؤه وشرعه، وهو مصدر، إمّا باق على معنى المصدرية، أو هو بمعنى المفعول، أي مكتوبة كقول الراعي:كانَ كتابُها مفعولًا وجَعْلُ تلك الأولوية كائنة في كتاب الله كنايةٌ عن عدم تعبيره، لأنّهم كانوا إذا أرادوا توكيد عهد كتبوه.قال الحارث بن حِلَّزة: فتقييد أولوية أولي الأرحام بأنّها في كتاب الله للدلالة على أنّ ذلك حكم فطري قدّره الله وأثبته بما وضع في الناس من الميل إلى قراباتهم، كما ورد في الحديث: «إن الله لما خلق الرحِمَ أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت: هذا مقام العائذِ بك من القَطيعة» الحديثَ.فلمّا كانت ولاية الأرحام أمرًا مقررًا في الفطرة، ولم تكن ولاية الدين معروفة في الجاهلية بيّن الله أنّ ولاية الدين لا تُبطل ولاية الرحم إلاّ إذا تعارضتا، لأنّ أواصر العقيدة والرأي أقوى من أواصر الجسد، فلا يغيّره ما ورد هنا من أحكام ولاية الناس بعضهم بعضًا، وبذلك الاعتبار الأصلي لولاية ذوي الأرحام كانوا مقدمين على أهل الولاية، حيث تكون الولاية، وينتفي التفضيل بانتفاء أصلها، فلا ولاية لأولي الأرحام إذا كانوا غير مسلمين.واختلف العلماء في أنّ ولاية الأرحام هنا هل تشمل ولاية الميراث: فقال مالك بن أنس هذه الآية ليست في المواريث أي فهي ولاية النصر وحسن الصحبة، أي فنقصر على موردها ولم يرها مساوية للعام الوارد على سبب خاصّ إذ ليست صيغتها صيغة عموم، لأن مناط الحكم قوله: {أولى ببعض}.وقال جماعة تشمل ولاية الميراث، ثم اختلفوا فمنهم من قال: نُسِخت هذه الولاية بآية المواريث، فبطل توريث ذوي الأرحام بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألْحِقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأِوْلى رجلٍ ذَكَرٍ» فيكون تخصيصًا للعموم عندهم.وقال جماعة يرث ذوو الأرحام وهم مقدمون على أبناء الأعمام، وهذا قول أبي حنيفة وفقهاء الكوفة، فتكون هذه الآية مقيِّدة لإطلاق آية المواريث، وقد علمت ممَّا تقدّم كلّه أنّ في هذه الآيات غموضًا جعلها مرامي لمختلف الأفهام والأقوال.وأيَّامًّا كانت فقد جاء بعدها من القرآن والسنة ما أغنى عن زيادة البسط.وقوله: {إن الله بكل شيء عليم} تذييل هو مؤذن بالتعليل؛ لتقرير أوْلويّة ذوي الأرحام بعضهم ببعض فيما فيه اعتداد بالولاية، أي إنّما اعتبرت تلك الأولويّة في الولاية، لأنّ الله قد علم أنّ لآصرة الرحم حقًّا في الولاية هو ثابت ما لم يمانعه مانع معتبر في الشرع، لأنّ الله بكلّ شيء عليم وهذا الحكم ممّا علم، الله أنّ إثباته رفق ورأفة بالأمّة. اهـ.
|